
بقلم: أمين الجاك عامر – المحامي
من الأمثال الشعبية السودانية نستلهم الحكمة والرؤية في إدارة مواردنا وتوجيهها نحو المصلحة العامة. يقول أحد الأمثال: “الزاد كان ما كفى ناس البيت يحرُم على الجيران”، بينما يقول آخر: “الفقراء اتقاسموا النبقة”. بين هذين المثلين تتجلى معاني التكافل، والحكمة في توزيع الموارد، وتحقيق التوازن المطلوب بين الأولويات، خاصة عندما يتعلق الأمر بحياة الناس وكرامتهم.
في هذا الإطار، تبرز الحاجة العاجلة للتفكير الاستراتيجي في مشروع حيوي لا يحتمل التأجيل: إمداد مدينة بورتسودان، وكل مدن وقرى شرق السودان، بمياه نهر النيل.
لقد تكررت في السنوات الأخيرة فيضانات نهر النيل بشكل مقلق، وتتناقل الوسائط الإعلامية ومجموعات التواصل تحذيرات مخيفة عن احتمالات انهيار سد النهضة – لا قدّر الله – لأي سبب طارئ في المستقبل. هذا الواقع يُحتم علينا التفكير في حلول ذكية لإدارة موارد النيل واستغلالها لصالح المواطن، بدلاً من أن تتحول إلى كوارث تهدد الناس والأرض.
اليوم، يعاني المواطن في بورتسودان معاناة يومية لا توصف من أجل الحصول على مياه صالحة للشرب، وتتكبد الأسر مبالغ طائلة فقط لتأمين الحد الأدنى من احتياجاتها الأساسية من المياه، في ظل غياب حلول جذرية ومستدامة.
لكن الواقع يؤكد أن نقل المياه من النيل إلى بورتسودان ممكن تقنياً ولوجستياً. فقد أثبتت تجارب سابقة، مثل مشروع أنابيب نقل البترول، إمكانية إيصال السوائل من مناطق منخفضة إلى أخرى مرتفعة. أما في مشروعنا هذا، فإن المسافة بين مدينة أبو حمد وبورتسودان تقارب 406 كيلومتر، وهي مسافة كبيرة بلا شك، لكنها ليست مستحيلة إذا توفرت الإرادة وتضافرت الجهود المجتمعية والرسمية.
إن أهمية هذا المشروع تتجاوز مجرد توفير المياه، فهو يُعد أيضاً وسيلة استراتيجية لتفريغ جزء من مياه النيل أثناء الفيضانات في البحر الأحمر، مما يُقلل من المخاطر البيئية والكوارث المحتملة.
صحيح أن مشروعاً بهذا الحجم يُعد من مسؤوليات الدولة، ولكن كما يقول المثل: “ما حكّ جلدك مثل ظفرك”. لا مانع من أن يبدأ هذا المشروع بمبادرة شعبية في ولاية البحر الأحمر، تتضافر فيها الجهود الرسمية مع الحراك المجتمعي، لحشد الموارد المحلية وتوجيه أموال المسؤولية المجتمعية لشركات تعدين الذهب والمواطنين نحو هذا المشروع الحيوي.
توجيه مبالغ المسؤولية المجتمعية الخاصة بقطاع التعدين في شرق السودان إلى هذا المشروع، يُعد توزيعاً عادلاً ومنصفاً لهذه الأموال، لأنه يخدم كل الناس عن طريق توفير المياه، وهو حق أساسي من حقوق الإنسان.
كما يمكن تأسيس شركة مساهمة عامة، يسهم فيها المواطنون بما يعادل تكلفة شراء الماء ليوم واحد في كل شهر، إلى جانب مساهمات رسمية وغير رسمية، لتنفيذ المشروع عبر نموذج (BOT)، بحيث تكون هذه الشركة مسؤولة عن إقامة المشروع وإدارته لمصلحة المواطنين.
إنها ليست مجرد أنابيب مياه، بل شريان حياة، ووسيلة إنقاذ، وركيزة لتنمية متكاملة.
هذه دعوة لكل غيور على هذا الوطن، لكل صاحب رأي، لكل اقتصادي، مهندس، ومواطن عطِش إلى الكرامة، أن يضع يده في يد الآخرين لإنجاح هذا المشروع المصيري.
أهل الشرق عطاشى… والنيل يفيض… فهل ننتظر حتى تغمرنا المياه من حيث لا نرتوي